فصل: فَصْل في أوجه المؤاخاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فَصْل في أوجه المؤاخاة:

والمؤاخاة فِي النَّاس على وجهين أحدهما أخوة مكتسبة بالاتفاق الجاري مجرى الاضطرار، وَالثَّانِيَة مكتسبة بالْقَصْد والاختيار، فَأَمَّا المكتسبة بالاتفاق فهي أوكد حالاً، لأنها تنعقَدْ عَنْ أسباب موجودة فِي الْمُتَآخِينَ، تعود المؤاخاة إِلَى تلك الأسباب، وهي موجودة فطرة.
فالمؤاخاة ضرورية لا يمكن دفعًا، كما لا يمكن دفع الإيلام، والمكتسبة بالْقَصْد، تعقَدْ لها أسباب اختيارية، تنقاد إليها، وتعتمد عَلَيْهَا بحسب قوتها وضعفها، وَرُبَّمَا تَكُون تَكَلُّفًا وخديعة، فتصير المؤاخاة معاداة، وما كَانَ جاريًا بِالطَّبْعِ فهو ألزم، مِمَّا هُوَ حادث بالْقَصْد.
إنما كَانَ كَذَلِكَ لأن الإتلاف بالتَّشَاكُلِ والتوافق، والتشاكل بالتجانس فإذا عدم التجانس من وجه، انتفى التشاكل من وجه ومَعَ انتفاء التشاكل يعدم الإئتلاف فثَبِّتْ أن التجانس، وإن تنوع أصل الإخاء وقاعدة الإئتلاف.
وقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف فيها ائتلف وما تناكر مَنْهَا اختلف». رَوَاهُ الْبُخَارِيّ، فالظواهر التي تبدو لَنَا ونراها فِي الاجتماعات العامة، ميل كُلّ امرئ إِلَى من يشاكله ويناسبه، روحَا وخلقَا، أَوْ دينَا، وأدبَا أَوْ مبدأ أَوْ مذهبَا أَوْ حرفة وعملاً.
قِيْل: إن إياسًا سافر إِلَى بلد فَلَمَّا وصل وصادف بَعْض أَهْل البلد وجرى بينهم كلام قَالَ إلياس: عرفنا خياركم من شراركم فِي يومين؟ فقِيْل لَهُ: كيف؟؟ قَالَ: كَانَ معنا خيارنا وشرارنا فلحق كُلّ بشكله خيارنا لحقوا بخياركم وشرارنا لحقوا بشراركم فألف كُلٌّ شكله. اهـ.
وَالأَلْفُ يَنْزِعُ نَحْوَ الآلِفِينَ كَمَا ** طَيْرَ السَّمَاءِ عَلَى أُلافِهَا تَقَعُ

آخر:
إِذَا بُلِي اللَّبِيبُ بِقُرْبِ فَدْمِ ** تَجَرَّعَ فِيهِ كَاسَاتِ الْحُتُوفِ

فَذُو الطَّبْعِ الْكَثِيفِ بِغَيْرِ قَصْدٍ ** يَضُرُّ بِصَاحِبِ الطَّبْعِ اللَّطِيفِ

وَذَلِكَ أَنَّ بَيْنَهُمَا اخْتِلافًا ** كَحُمَّى الرّبْعِ فِي فَصْلِ الْخَرِيفِ

آخر:
وَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْمُزَاحَ فَإِنَّهُ ** يُطَمِّعُ فِيكَ الطِّفْلَ وَالرَّجُلَ النَّذْلا

وَيُذَهِّبُ مَاءَ الْوَجْهِ بَعْدَ بَهَائِهِ ** وَيُورِثُ بَعْدَ الْعِزِّ صَاحِبَُهُ ذُلا

آخر:
تَوقَّ بَنِي الزَّمَانِ فَكَمْ خَلِيلٍ ** مِنْ الْخِلانِ مَذْمُوم الْخَلالِ

وَخَفّفْ مَا اسْتُطَعْتَ فَكُلُّ نَذْلٍ ** يَرَى رَدَّ السَّلامِ مِن الثِّقَالِ

وَلا تَنْظُرْ لِجِسْم الْمَرْءِ وَانْظُرْ ** دِيَانَتَهُ فَإِنَّ الْجِسْمَ آلِ

وَإِنْ عَايَنْتَ ذَا فِسْقِ وَكُفْرِ ** فَخَفْهُ فَذَاكَ أَخْتَلُ مِنْ ذُؤَالِ

آخر:
إِذَا أَنْتَ سَارَرْتَ فِي مَجْلِسٍ ** فَإِنَّكَ فِي أَهْلِهِ مُتَّهَمْ

فَهَذَا يَقُولُ قَدْ اغْتَابَنِي ** وَذَا يَسْتَرِيبُ وَذَا يَأْثَمُ

آخر:
وَقَدْ تَعَامَى رِجَالٌ لَوْ تَبَيَّنُ لَهُمْ ** سَجِيَّةُ النَّاسِ خَافُوا كُلَّ مَنْ أَمِنُوا

ذَمَمْتُ وَقْتَكَ أَنْ نَابَتْكَ نَائِبَةٌ ** بِمِثْلِ مَا تَشْتَكِيهِ يُعْرَفُ الزَّمَنُ

خِفْ مِنْ جَلِيسِكَ وَاصْمُتْ إِنْ بُلِيتَ بِهِ ** فَالْعِيُّ أَفْضَلُ مِمَّا يَحْبِكُ اللَّسِنُ

آخر:
كَانَ إِجْتِمَاعُ النَّاسِ فِيمَا مَضَى ** يُورِثُ لِلْبَهْجَةِ وَالسَّلْوَةْ

فَانْقَلَبَ الأَمْرُ إِلَى ضِدِّهِ ** فَصَارَت السَّلْوَةُ فِي الْخَلْوَةْ

آخر:
مُخَالِطُ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا عَلَى خِطَرٍ ** وَفِي بَلاءٍ وَصَفْوٍ شِيبَ بِالْكَدَرَ

كَرَاكِبِ الْبَحْرِ إِنْ تَسْلَمْ حُشَاشَتُهُ ** فَلَيْسَ يَسْلَمُ مِنْ خَوْفِ وَمِنْ حَذَر

فتَرَى المجتمعين بعد مدة وجيزة من بدئ الاجتماع، قَدْ انقسموا جماعات، تتحدث كُلّ جماعة فِي شؤونها الخاصة، وأمورها المشتركة، وتتغير نفوسها إِذَا رأت دخيلاً بين جماعتها لا تربطه بِهُمْ صلة، ولا تجمعهم به جامعة، وعِنْدَمَا تركب فِي قطار، أَوْ سيارة أَوْ سفينة، أَوْ فِي مجلس من المجالس، تَرَى نفسك منجذبة إِلَى بَعْض الحاضرين مشمئزةً ونافرةً من الآخرين، وَرُبَّمَا أنه لم يكن قبل ذَلِكَ اجتماع ولا تعارف، ولا تعاد وتخاصم.... فالسِّرّ فِي هَذَا ما بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم بهَذَا الْحَدِيث فهو يَقُولُ: إن أرواح العباد ونفوسهم جنود مجتمعة، وجيوش مجيشة فالتي بينها تعارف وتشاكل وتوافق وتناسب، يألف بعضها بَعْضًا، ويسر باجتماعه، ويفرح لقائه، لاتفاق فِي المبدأ وتقارب فِي الروح.
روى أبو يعلى فِي مسنده عَنْ عمرة بنت عَبْد الرَّحْمَنِ قَالَتْ: كَانَتْ امرأة بمَكَّة مزاحة، فنزلت على امرأة مثلها فِي الْمَدِينَة، فبلغ ذَلِكَ عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فقَالَتْ: صدق حبي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف مَنْهَا ائتلف، وما تناكر مَنْهَا اختلف».
فالأخيار الأَبْرَار الأتقياء الأمجاد الأطهار، إِذَا وجدوا فِي مجتمَعَ جذبوا أشباهم، أَوْ انجذبوا إليهم، وسرى بينهم تيار من المحبة جمَعَ قلوبهم وقوَّى روابطها وثَبّتْ صلتها.
قَالَ بَعْضهمْ:
لَعَمْرُكَ إِنَّ الْقَلْبَ نَحْوَكَ شَيِّقٌ ** وَأَنْتَ بِمَا أَلْقَى مِن الشَّوْقِ أَعْلَمُ

فُؤُدُّكَ عَنْ وِدِّي إِلَيْكَ مُبَلِّغٌ ** وَقَلْبُكَ عَنْ قَلْبِي إِلَيْكَ يُتَرْجِمُ

وكَذَلِكَ الأَشْرَار والفجار والفسقة والظلمة، إِذَا حضروا بناد بادر إليهم الفسقة، والمجرمون، والسفلل، واللؤماء، وجذبهم قرناؤهم، ونفروا ممن لا يتخلق بأخلاقهم، ولا يسير فِي ركابهم.
قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لو أن مؤمنًا دخل إِلَى مجلس فيه مائة منافق، ومُؤْمِن واحد لجَاءَ حَتَّى يجلس إليه، ولو أن منافقًا دخل إِلَى مجلس فيه مائة مُؤْمِن ومنافق واحد، لجَاءَ حَتَّى يجلس إليه».
وَهَذَا يدل على أن شبه الشيء منجذب إليه بِالطَّبْعِ، وإن كَانَ هُوَ لا يشعر به، وكَانَ مالك بين دينار يَقُولُ: «لا يتفق اثنان فِي عشرة إِلا وفي أحدهما وصف عَنْ الآخِر، وأن أجناس الناس كأجناس الطير ولا يتفق نوعان من الطير فِي الطيران إِلا وبينهما مناسبة». قَالَ: فرأى يَوْمًا غرابًا مَعَ حمامة فعجب من ذَلِكَ فقَالَ: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثُمَّ طارا فإذا هما أعرجان فقَالَ: من ها هنا اتفقا. وقَالَ بَعْض الحكماء: كُلّ إنسان إِلَى شكله كما أن كُلّ طير يطير مَعَ جنسه. قَالَ بَعْضُهُمْ:
لِكُلِّ امْرِئٍ شَكْلٌ يَقَرُ بِعَيْنِهِ ** وَقُرَّةُ عَيْنِ الْفَسْلِ أَنْ يَصْحَبَ الْفَسْلا

وَيَقُولُ الآخر:
وَلَيْسَ أَخُوكَ الدَّائِمُ الْعَهْدِ بِالَّذِي ** يَذِمُّكَ إِنْ وَلَّى وَيُرْضِيكَ مُقْبِلاً

وَلَكِنَّهُ النَّائِي إِذَا كُنْتَ آمِنًا ** وَصَاحِبُكَ الأَدْنَى إِذَا الأَمْر مُعْضِلاً

آخر:
مَنْ خَصَّ بِالشُّكْرِ الصَّدِيقَ فَإِنَّنِي ** أَحْبُو بِخَالِصِ شُكْرِيَ الأَعْدَاءَ

نَكِّرُوا عَليَّ مَعَائِبِي فَحَذِرْتُهَا ** وَنَفَيْتُ عَنْ أَخْلاقِي الأَقْذَاءَ

وَلَرُبَّمَا انْتَفَعَ الْفَتَى بِعَدُوِّهِ ** وَالسُّمُّ أَحْيَانًا يَكُون شِفَاءَ

آخر:
وَكَمْ مِنْ عَدُوّ صَارَ بَعْدَ عَدَاوَةِ ** صَدِيقًا مُجِلاً فِي الْمَجَالِسِ مُعَظِّمَا

وَلا غُرْوَ فَالْعَنْقُودُ مِنْ بَعْد كَرْمِهِ ** يُرَى عِنَبًا مِنْ بَعْدِ مَا كَانَ حِصْرِمَا

آخر:
لَيْسَ الصَّدِيقُ الَّذِي يَلْقَاكَ مُتْبَسِمًا ** وَلا الَّذِي بِالتَّهَانِي وَالسُّرُورِ يُرَى

إِنَّ الصَّدِيقُ الَّذِي يُولِي نَصِيحَتُهُ ** وَإِنْ عَرَتْ شِدَّةُ أَغْنَى بِمَا قَدِرَا

آخر:
عَاشِرْ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَبْقَى مَزَدَّتُهُ ** فَأَكْثَرُ النَّاسِ جَمْعٌ غَيْرِ مُؤْتَلِفِ

مِنْهُمْ صَدِيقٌ بِلا قَافٍ وَمَعْرِفة ** بِغَيْرِ فَاءٍ وَإِخْوَانٌ بِلا أَلِفِ

آخر:
إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يُنْصِفْ أَخَاهُ وَلَمْ يَكُنْ ** لَهُ غَائِبًا يَوْمًا كَمَا هُوَ شَاهَدُ

فَلا خَيْرَ فِيهِ فَالْتَمِسْ غَيْرَهُ أَخًا ** كَرِيمًا عَلَى صِدْقِ الإِخَاءِ يُسَاعِدُ

آخر:
وَقُلْتُ أَخِي قَالُوا أَخَ مِنْ قَرَابَةً ** فَقُلْتُ لَهُمْ إِنَّ الشُّكُولَ أَقَارِبُ

نَسِيبِي فِي رَأْي وَعَزْمِي وَهِمَّتِي ** وَإِنْ فَرَّقْتَنَا فِي الأُصُولِ الْمَنَاسِبُ

وإذا عرفت رجالاً بالبر والتقى والاستقامة ونفرت مِنْهُمْ نفسك ونبأ عنهم قلبك، فاعْلَمْ أِنَّكَ مريض، إما مرض شبهة وإِلا مرض شهوة، وأنك ناقص معيب، دونهم فِي الطهارة، فداو نفسك من عيوبها، وطهرها من أوزارها حَتَّى تتقابر الأرواح وتتشاكل النُّفُوس، فتحل الألفة محل النفرة.
وإذا رَأَيْت نفسك تميل إِلَى من تعرفهم بالشَّر والفجور، والفسق والخلاعة والعهر فاتهم نفسك واستدرك عمرك قبل الفوت، وابتعد عنهم كُلّ البعد، وتب إِلَى الله واسأله أن يعافيك مِمَّا ابتلاهم.
وإذا رَأَيْت نفسك تحدثك بأنك البر الأمين التقي المخلص أَوْ الإِنْسَان المهذب، فكذب نفسك فِي الإعجاب، وفي هَذَا الوهم الكاذب، وأعتقَدْ أنَّكَ غر مخدوع، وأبله مفتون، ففتش فِي زوايا قلبك، تجد للباطل ركنًا، وللشيطان حظًا، وللفساد جوًا وَهَذَا ما جذب قلبك إِلَى الأَشْرَار.
وإذا رأيتك تميل إِلَى الأخيار، وتحب مجالسهم، وتنجذب نفسك إليهم، مَعَ علمك بسوء سيرتك واعوجاج طريقتك، فاعْلَمْ أن فيك بقية خَيْر، ولا يزال فيك أمل فَرَبِّ هَذِهِ البقية وَقَوِّ هَذَا الأمل، حَتَّى يرحل عَنْكَ الشَّر، وتدخل فِي حزب الْخَيْر.
وكَذَلِكَ إِذَا رَأَيْت فِي نفسك بَعْض الميل للمجرمين، وأَنْتَ طاهر تقي نقي، فاعرف أن الشيطان قَدْ نفث فيك نفثة، وثغر فِي قلبك بغرة، فتدارك أمرك وتحصن منه واستعذ بِاللهِ قَالَ الله تَعَالَى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ} الآيَة، وقَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إِلَى آخر السورة اهـ. من الأَدَب النبوي.
وَعَنْ أَبِي ذر أنَّه قَالَ: الصَاحِب الْخَيِّرُ خَيْر من الوحدة، والوحدة خَيْر من جلَيْسَ السُّوء، ومملي الْخَيْر خَيْر من الساكت، والساكت خَيْر من مملي الشَّر. وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وسلم.

.فَصْل في بيان أن عداوة العاقل أقل ضررًا من مودة الأحمق:

قَالَ بَعْض الحكماء: عداوة العاقل أقل ضررًا من مودة الأحمق لأن الأحمق ربما ضر وَهُوَ يقدر أن ينفع لعدم تمييزه بين النفع والضر فيتجاوز الحد، والعاقل لا يتجاوز الحد فِي مضرته فمضرته لها حد يقف عَلَيْهِ العقل إِذَا انتهى إلى ذَلِكَ الحد. ومضرة الجاهل لَيْسَتْ بذات حد والمحدود أقل ضررًا مِمَّا هُوَ غير محدود قَالَ بَعْضُهُمْ:
وَلأَنْ يُعَادِي عَاقِلاً خَيْرٌ لَهُ ** مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ صَدِيقٌ أَحْمَقُ

فَارْغَبْ بِنَفْسِكَ أَنْ تُصَادِقَ جَاهِلاً ** إِنَّ الصَّدِيقَ عَلَى الصَّدِيقِ مُصَدِّقُ

وقَالَ بَعْض الأدباء من أشار عَلَيْكَ بمصاحبة جاهل لم يخل من أمرين إما أن يكون صديقًا جاهلاً، ما يعرف ولا يميز بَيْنَ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ وَمَنْ لا يَصْلُحُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونُ هَذَا الْمُشِيرُ عَلَيْكَ عَدُوًّا لَكِنَّهُ عَاقِلٌ لأَنَّهُ يُشِيرُ بِمَا يَضُرُكَ وَيَحْتَالُ عَلَيْكَ بِالأَشْيَاءِ الَّتِي تَضُرُكَ، وَقَدِيمًا قِيْل:
وَلا تَصْحَب الحمقى فذو الجهل أن يروا ** صلاحًا لأمرٍ يَا أَخَا الْحَزْمِ مُفْسِد

ويقول الآخر:
فعداوة مِنْ عَاقِلٍ مُتَجَمِّلٍ ** أَوْلَى وَأَسْلَم مِنْ صَدَاقَةِ أَحْمَق

وقَالَ بَعْضهمْ: الأَصْدِقَاءُ ثَلاثَةٌ أَحَدُهُمْ كَالْغِذَاءِ لابد مِنْهُ، وَالثَّانِي كَالدَّوَاءِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَالثَّالِثُ كَالدَّاءِ لا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَط. وقَدْ قِيْلَ: مِثْل جُمْلَةِ النَّاسِ كَمِثْل الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ فَمِنْهَا مَا لَهُ ظِلّ ولَيْسَ لَهُ ثمر وَهُوَ مثل الَّذِي ينتفع به فِي الدُّنْيَا دون الآخِرَة، فَإِنَّ نفع الدُّنْيَا كالظِلّ السريع الزَوَال، ومنها ما لَهُ ثمر ولَيْسَ لَهُ ظِلّ.
ومنها ما لَيْسَ لَهُ واحد منهما كأم غيلان تمزق الثياب ولا طعم فيها ولا شراب ومثله من الْحَيَوَان الحية والعقرب والفأر ومثله فِي النَّبَات الخنيز فإنه يضيق على الزرع ويضر من لمسه ولا يؤكل ولا لَهُ تمر يؤكل.
وَيَشْرَبُ مَاءَ الزَّرع وَيَعُوقُ نُمُوَّهُ ** إِذَا فلابد مِنْ الإِخْتِيَار قَبْلَ الْمُعَامَلَة

آخر:
لا تَشْكُرَنَّ فَتىً حَتَّى تُعَامِلَهُ ** وَتَسْتَبِينَ مِن الْحَالَينِ إِنْصَافَا

فَقَدْ تَرَى رَجُلاً بَادِي الصَّلاحِ فَإِنْ ** عَامَلْتَهُ فِي حَقِيرٍ غَشَّ أَوْ حَافَا

آخر:
النَّاسُ شَتَّى إِذَا مَا أَنْتَ ذُقْتَهُمُ ** لا يَسْتَوُونَ كَمَا لا تَسْتَوِي الشَّجَرُ

هَذَا لَهُ ثَمَرٌ حُلْوٌ مَذَاقَتُهُ ** وَذَاكَ لَيْسَ لَهُ طَعْمٌ وَلا ثَمَرُ

إذا فهمت تفاوت النَّاس فِي العقل والدين فعَلَيْكَ قبل الصداقة أن تفحص عَنْ من تريد صداقته وإخاءه فإذا حصلت على من ترضاه دينًا وعقلاً وأدبًا فألزمه، كما قِيْل:
أَبْلِ الرِّجَالَ إِذَا أَرَدْتَ إِخَاءَهُمْ ** وَتَوَسَّمَنَّ أُمُورَهُمْ وَتَفَقَّدِ

فَإِذَا ظَفَرْتَ بِذِي الأَمَانَةِ وَالتُّقَى ** فِبهِ الْيَدَيْنِ قَرِيرَ عَيْنٍ فَاشْدُدِ

آخر:
لا تَمْدَحَنَّ امْرأً حَتَّى تُجَرِّبَهُ ** وَلا تَذُمَنَّهُ مِنْ غَيْرِ تَجْرِيبِ

فَإِنَّ حَمْدَكَ مَنْ لَمْ تَبْلُهُ سَرَفٌ ** وَإِنَّ ذَمَّكَ بَعْدَ الْحَمْدِ تَكْذِيبُ

آخر:
جَامِلْ أَخَاكَ إِذَا اسْتَربْتَ بِوِدِّهِ ** وَانْظُرْ بِهِ عُقْبَى الزَّمَانِ يُعَاوِدُ

فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى الْفَسَادِ فَخَلَّهِ ** فَالْعُضْوُ يُقْطَعُ لِلْفَسَادِ الزَّائِد

وقَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل النَّاس فيها أربعة أقسام: متى خلط أحد الأقسام بالآخِر ولم يميز بينهما دخل عَلَيْهِ الشَّر.
أحدهما: من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عَنْهُ فِي الْيَوْم فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثُمَّ إِذَا احتاج إليه خالطه هكَذَا على الدوام. وَهَذَا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم الْعُلَمَاء بِاللهِ وأمره، ومكايد عدوه، وأمراض الْقَلْب وأدويتها الناصحون لله ولرسوله ولخلقه. فهَذَا الضرب فِي مخالطتهم الرِّبْح كُلّ الرِّبْح.
القسم الثاني: من مخالطته كالدواء، يحتاج إليه عَنْدَ المرض فما دمت صحيحًا فلا حَاجَة لَكَ فِي خلطته، وهم من لا يستغنى عَنْ مخالطتهم فِي مصلحة المعاش، وقيام ما أَنْتَ محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضت حاجتك من مخالطة هَذَا الضرب بقيت مخالطتهم من القسم الثالث: وهم من مخالطتهم كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه.
فمِنْهُمْ من مخالطته كالداء العضال، والمرض المزمن، وَهُوَ من لا تربح عَلَيْهِ فِي دين ولا دنيا، ومَعَ ذَلِكَ فلابد مِنْ أن تخسر عَلَيْهِ الدين والدُّنْيَا أَوْ أحدهما، فهَذَا إِذَا تمكنت منك مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف.
وَمِنْهُمْ من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربه عليك فإذا فارقك سكن الألم.
وَمِنْهُمْ من مخالطته حمى الروح، وَهُوَ الثقِيْل البغيض، الَّذِي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نَفْسهُ فيضعها منزلتها، بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قُلُوب السامعين، مَعَ إعجابه بكلامه وفرحه به.
فهو يحدث من فيه كُلَّما تحدث، ويظن أنه مسك يطيب به المجلس، وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأَرْض ويذكر عَنْ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللهُ أنه قَالَ: ما جلس إِلَى جانبي ثقِيْل إِلا وجدت الجانب الَّذِي يليه أنزل من الجانب الآخِر.
قَالَ بَعْضهمْ:
يَا مَنْ تَبَرَّمَتِ الدُّنْيَا بِطَلْعَتِهِ ** كَمَا تَبَرَّمَتِ الأَجْفَانُ بِالسُّهُدِ

يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مُخْتَالاً فَأَحْسِبُه ** لِثقْل طَلْعَتِهِ يَمْشِي عَلَى كَبِدِي

وقَالَ ابن القيم: ورَأَيْت يَوْمًا عَنْدَ شيخنا قدس الله روحه رجلاً من هَذَا الضرب، والشَّيْخ يحمله، وقَدْ ضعفت القوى عَنْ حمله، فالتفت إلي وقَالَ: مُجَالَسَة الثقِيْل حمى الربع، ثُمَّ قَالَ: لكن قَدْ أدمنت أرواحنا على الحمى، فصَارَت لها عادة أَوْ كما قَالَ بعضهم:
مَا حِيلَتِي فِي ثَقِيْلٍ قَدْ بُلِيتَ بِهِ ** مِنْ قُبْحِ طَلْعَتِهِ يَسْتَحْسَنُ الرَّمَدُ

قَدْ زَادَ فِي الثِّقْلِ حَتَّى مَا يُقَارِبُه ** فِي ثِقْلِهِ أَحَدٌ حَتَّى وَلا أَحُدُ

ومرض الشعبي فعاده ثقِيْل فأطال الجلوس ثُمَّ قَالَ للشعبي: ما أشد ما مر بك فِي مرضك؟ قَالَ: قعودك عِنْدِي.
ومر به صديق لَهُ وَهُوَ بين ثقِيْلين فقَالَ لَهُ: كيف الروح؟ فقَالَ: فِي النزع يعني فِي شدة عظيمة.
وبالجملة: فمخالطة كُلّ مخالف حمى للروح، فعرضية ولازمة.
ومن نكد الدُّنْيَا على الْعَبْد أن يبتلى بواحد من هَذَا الضرب، ولَيْسَ لَهُ بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حَتَّى يجعل الله لَهُ من أمره فرجًا ومخرجًا.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلته بمنزلة أكل السم، فَإِنَّ اتفق لآكله ترياق، وإِلا فأحسن الله فيه العزاء، وما أكثر هَذَا الضرب فِي النَّاس لا كثرهم الله.
وهم أَهْل البدع والضلالة، والصادون عَنْ سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم الداعون إِلَى خلافها، الَّذِي يصدون عَنْ سبيل ويبغونها عوجًا، فيجعلون البدعة سُنَّة، والسُنَّة بدعة، والمعروف منكرًا والْمُنْكَر معروفًا.
إن جردت التَّوْحِيد بينهم قَالُوا: تنقصت جناب الأَوْلِيَاء والصالحين.
وإن جردت المتابعة لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: أهدرت الأَئِمَّة المتبوعين.
وإن وصفت الله بما وصف به نَفْسهُ وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قَالُوا: أَنْتَ من المشبهين.
وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عَنْهُ ورسوله من الْمُنْكَر قَالُوا: أَنْتَ من المفتونين.
وإن تبعت السُنَّة وتركت ما خالفها قَالُوا: أَنْتَ من أَهْل البدع المضلين.
وإن انقطعت إِلَى الله تَعَالَى، وخليت بينهم وبين جيفة الدُّنْيَا قَالُوا: أَنْتَ من المبلسين.
وإن تركت ما أَنْتَ عَلَيْهِ واتبعت أهواءهم فأَنْتَ عَنْدَ الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين.
فالحزم كُلّ الحزم: التماس مرضاة الله تَعَالَى ورسوله بإغضابهم، وأن لا تشتغل باعتابهم، ولا باستعتابهم، ولا تبالي بذمهم ولا بغضهم فإنه عين كمالك كما قَالَ:
وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِص ** فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّي فَاضِل

وَقَالَ آخر:
وَقَدْ زَادَنِي حُبًّا لِنَفْسِي أَنَّنِي ** بَغِيضٌ إِلَى كُلِّ امْرِئِ غَيْرِ طَائِل

فمن أيقظ بواب قَلْبهُ وحارسه من هَذِهِ المداخل الأربعة التي هِيَ أصل بَلاء العَالِم.
وهي: فضول النظر، والكلام، والطعام، والمخالطة واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحزره من الشيطان فقَدْ أخذ بنصيبه من التَّوْفِيق. وسد عَنْ نَفْسهُ أبواب جهنم، وفتح عَلَيْهَا أبواب الرحمة، وانغمر ظاهره وباطنه.
ويوشك أن يحمد عَنْدَ الْمَمَات عاقبة هَذَا الدواء، فعَنْدَ الْمَمَات يحمد القوم التقي، وفي الصباح يحمد القوم السري، وَاللهُ الْمُوَفِّقُ لا رب غيره ولا إله سواه. اهـ.
اللَّهُمَّ يَا عَالِم الخفيات ويا سامَعَ الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يَا خالق الأَرْض والسماوات أَنْتَ الله الأحد الصمد الَّذِي لم يلد ولم يولد ولم يكن لَهُ كفوًا أحد الوهاب الَّذِي لا يبخل والحليم الَّذِي لا يعجل لا رادَّ لأَمْرِكَ ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إِنَّكَ على كُلّ شَيْء قدير وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.